بين باريس سان جيرمان الاستثنائي وريال مدريد المترنح.. هل رحل مبابي في التوقيت الخطأ؟

في كرة القدم، كما في الحياة، هناك قرارات لا تُقاس بلحظتها، بل بنتائجها بعد مرور الزمن، قد تبدو اللحظة مغرية، والوجهة براقة، لكن النتيجة الحقيقية للقرار لا تتجلى إلا حين تتضح الصورة كاملة، كأنك تقف أمام بابين مفتوحين، أحدهما يؤدي إلى المجد الحقيقي والآخر يبدو طريقًا للمجد لكنه في الحقيقة ليس طريق المجد اللحظي، هنا تحديدًا وقف النجم الفرنسي كيليان مبابي، شابًا في قمة عطائه الكروي ومستوياته، أمام منعطف يقرر فيه مصير سنواته المقبلة، بين ريال مدريد الإسباني وباريس سان جيرمان الفرنسي.
في صيف 2024، قرر مبابي الرحيل مجانًا عن باريس سان جيرمان والانضمام إلى ريال مدريد، وهي خطوة كانت متوقعة لسنوات، لكنها أتت بعد محطات طويلة من الشد والجذب، ففي صيف 2022، اختار مبابي البقاء في باريس، مُجددًا عقده رغم العرض المقدم من ريال مدريد، ومفضلًا حينها مواصلة قيادة مشروع نادي العاصمة الفرنسية بنفسه، كما رفض باريس سان جيرمان مرارًا وتكرارًا بيعه بأي ثمن، متمسكًا به كقائد للمشروع، وكرمز للمستقبل، لكن المستقبل حوى طريقًا آخر.
الآن، بعد مرور موسم كامل تقريبًا، وبعد أن أصبح باريس في ذروة نضجه التكتيكي، يطرح السؤال نفسه: هل غادر مبابي باريس سان جيرمان في التوقيت الخطأ؟ هل كان صائبًا أن يغادر المشروع في ذلك الوقت؟ هل كان هذا هو الوقت المناسب للانضمام إلى ريال مدريد؟ هل كان المجد الذي بحث عنه مبابي موجودًا في مدريد أم أن اللاعب سعى وراء السراب؟
التقرير التالي يحاول أن يقرأ هذه اللحظة المعقدة، بالأرقام والوقائع، وبشيء من الهدوء أيضًا.

جيل ذهبي جديد في باريس
في الوقت الذي كانت فيه الأنظار مركّزة على مصير كيليان مبابي، كانت إدارة باريس سان جيرمان، بقيادة المدرب لويس إنريكي، تعمل بصمت على مشروع شاب طموح، تميز بتجديد شامل في الأسماء والاعتماد على لاعبين صغار السن.
في دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، امتلك باريس سان جيرمان أصغر معدل أعمار بين كل الفرق التي بلغت دور الستة عشر، بمتوسط 23.6 سنة.
وقبل نهاية الموسم بمباريات قليلة، جاءت قائمة أكثر اللاعبين مشاركة لتؤكد هذا التوجه الشبابي:
أكثر اللاعبين مشاركة مع باريس سان جيرمان هذا الموسم حتى الآن | العمر الحالي | عدد المباريات |
1- برادلي باركولا | 22 عامًا | 55 مباراة |
2- فابيان رويز | 29 عامًا | 51 مباراة |
3- ديزيري دوي | 19 عامًا | 51 مباراة |
4- جواو نيفيز | 20 عامًا | 49 مباراة |
5- ويليان باتشو | 23 عامًا | 49 مباراة |
6- فيتينيا | 25 عامًا | 49 مباراة |
7- عثمان ديمبيلي | 27 عامًا | 46 مباراة |
8- لي كانغ إن | 24 عامًا | 45 مباراة |
9- أشرف حكيمي | 26 عامًا | 45 مباراة |
10- زائير إيمري | 19 عامًا | 45 مباراة |
11- نونو مينديش | 22 عامًا | 43 مباراة |
كل هذه أرقام تدل على أن المشروع لا يعتمد على نجم واحد، بل على منظومة شابة متكاملة، ومع تواجد مبابي وسط هذه الأسماء، سيكون هو القائد لهم على المستوى الفني والمعنوي رغم أنه لم يتجاوز ال27 من عمره بعد، وسيضيف هذا التواجد للاعب وللنادي على كل المستويات.

الثلاثية التاريخية كانت ممكنة ومبابي كان سيكون بطلها الأهم
ما تحقق لباريس سان جيرمان هذا الموسم يضع علامات استفهام كبيرة حول توقيت رحيل مبابي، خصوصًا أن الفريق اقترب من تحقيق ثلاثية تاريخية: الدوري الفرنسي، دوري أبطال أوروبا، وكأس فرنسا، بالإضافة إلى حسمه كأس السوبر الفرنسي في بداية الموسم.
وفي غياب مبابي، أظهر الفريق قوة هجومية جماعية، حيث جاءت قائمة هدافي الفريق كالتالي:
اسم اللاعب | عدد الأهداف |
1- عثمان ديمبيلي | 33 هدفًا |
2- برادلي باركولا | 19 هدفًا |
3- جونسالو راموس | 18 هدفًا |
وبالنظر لقائمة هدافي الفريق في الموسم الماضي:
اسم اللاعب | عدد الأهداف |
1- كيليان مبابي | 44 هدفًا |
2- جونسالو راموس | 14 هدفًا |
3- فيتينيا – كولو مواني | 9 أهداف لكل منهما |
التحول كان واضحًا: الفريق أصبح أكثر جماعية، والشراسة الهجومية لم تعد مسؤولية لاعب واحد، وهذا كان من الممكن أن يكون في صالح مبابي نفسه، لأنه كان سيتلقى دعماً هجومياً كبيراً يخفف عنه الأعباء، ويقرّبه من البطولات الجماعية أكثر من أي وقت مضى.

وفي إشارة واضحة على تطور الفريق هجوميًا، وصل باريس سان جيرمان في أبريل الماضي لأعلى معدل صناعة فرص محققة في المباراة الواحدة في الدوري الفرنسي خلال آخر خمس سنوات، وجاءت المعدلات بعد الجولة 28 كالتالي:
الموسم | معدل الفرص المحققة لباريس سان جيرمان لكل مباراة |
2025-2024 | 4.25 فرصة محققة لكل مباراة |
2024-2023 | 2.35 فرصة محققة لكل مباراة |
2023-2022 | 2.97 فرصة محققة لكل مباراة |
2022-2021 | 3.12 فرصة محققة لكل مباراة |
2021-2020 | 2.88 فرصة محققة لكل مباراة |
الأرقام تدل على الشراسة الهجومية التي وصل إليها باريس سان جيرمان هذا الموسم في الدوري الفرنسي وبالطبع وجود مبابي قدراته المميزة على المستوى الهجومي فقد خسر محبو كرة القدم فرصة لمشاهدة نسخة مبهرة هجوميًا ورقميًا من مبابي، كان من الوارد جدًا أن تتحقق لو استمر مع باريس سان جيرمان في الموسم الحالي.
دفاعيًا أيضًا، يقدم الفريق الفرنسي واحدًا من أفضل مواسمه على الإطلاق، حيث وصل إلى أقل معدل في التسديدات التي يتلقاها في كل مباراة في الدوري الفرنسي في هذا الموسم مقارنة بالمواسم الأربعة السابقة للموسم الحالي.
الموسم | معدل التسديدات التي يتلقاها مرمى باريس سان جيرمان لكل مباراة |
2025-2024 | 6.04 تسديدة لكل مباراة |
2024-2023 | 7.94 تسديدة لكل مباراة |
2023-2022 | 8 تسديدات لكل مباراة |
2022-2021 | 6.91 تسديدة لكل مباراة |
2021-2020 | 6.59 تسديدة لكل مباراة |
تظهر بوضوح الصلابة الدفاعية التي يتميز بها باريس سان جيرمان هذا الموسم ومع التفوق الهجومي الواضح أيضًا فإن الفريق يمر بنسخة استثنائية لا ينقصها سوى نجم تلتف حوله الجماهير ويجذب الأنظار نحو هذا المشروع المميز.
أما من حيث صناعة الفرص بشكل عام، فقد كان باريس هذا الموسم هو أكثر فريق قام بصناعة فرص في الدوريات الخمسة الكبرى، حيث:
الموسم | عدد الفرص في الدوري فرنسي |
2025-2024 | 501 فرصة (قبل مباراة من نهاية الموسم) |
2024-2023 | 420 فرصة |
بالنظر للأرقام نجد تحسنًا كبيرًا على المستوى الهجومي والدفاعي لباريس في غياب مبابي، فماذا لو كان مبابي أحد عناصر هذا الفريق؟ لو استمر النجم الفرنسي في باريس، لكان في بيئة هجومية مثالية لزيادة أكبر في أرقامه.
أما على مستوى “الأهداف المتوقعة”، فالمقارنة بين باريس سان جيرمان وريال مدريد في الدوري المحلي تكشف الكثير:
الفريق | الموسم | عدد الاهداف المتوقعة |
باريس سان جيرمان | 2024-2023 | 70.01 هدف متوقع |
باريس سان جيرمان | 2025-2024 | 87.45 هدف متوقع |
ريال مدريد | 2024-2023 | 70.56 هدف متوقع |
ريال مدريد | 2025-2024 | 69.29 هدف متوقع |
النتيجة؟ مبابي ترك فريقًا زاد فيه عدد الأهداف المتوقعة، وانتقل إلى فريق لم يتغير كثيرًا فيه عدد الأهداف المتوقعة قبل مجيئه، وبالتالي رقمياً، لم يمثل انتقاله إضافة واضحة لريال مدريد على مستوى التهديد الهجومي، لكنه خسر فرصة أكبر في زيادة رصيده التهديفي الإجمالي.
لويس إنريكي صرّح في فبراير الماضي قائلاً:
“كنتُ شجاعًا للغاية الموسم الماضي عندما قلتُ إننا سنمتلك فريقًا أفضل هجوميًا ودفاعيًا. ما زلتُ أعتقد أننا أفضل هجوميًا ودفاعيًا، والأرقام تُثبت ذلك. لقد اعتبر اللاعبون الأمر تحديًا.”
حديث إنريكي يدل على ثقة المدرب في إمكانياته وإمكانيات فريقه وعدم اكتراثه كثيرًا برحيل مبابي رغم نجوميته ومستواه الكبيرين، ويثبت أن أحد عوامل النجاح لأي مدرب هو أن الفريق هو النجم وليس الأفراد.

من إنريكي إلى أنشيلوتي.. تطور تكتيكي أم حرية غير مفيدة؟
التحول من إنريكي إلى أنشيلوتي لم يكن فقط انتقالًا بين ناديين، بل بين مدرستين مختلفتين تمامًا في التعامل الفني.
إنريكي مدرب يهتم بالأمور التكتيكية والفنية وتمركز اللاعبين وتحركهم بدون كرة وهو أحد مدربي مدرسة الكرة الجميلة والتمريرات الأرضية بين اللاعبين والتحرك بدون كرة، وفي المقابل لا أحد يمكنه التشكيك في أسطورة التدريب الإيطالي كارلو أنشيلوتي لكنه يبدو في مرحلة تراجع واضحة للجميع ومع تصريحه السابق بأنه بفضل ترك الكثير من الحرية للاعبين في الملعب للتحرك بدون الالتزام بتعليمات محددة فإن مبابي يفقد فرصة للتطور بشكل أكبر على المستوى التكتيكي وهو أمر يحتاج إليه كل لاعب في عمر مبابي.
رغم كل ما ذكرنا عن إنريكي إلا أن المدرب لا يعامل لاعبيه كأنهم آلات فقط، لكن يترك لهم الفرصة للإبداع الفردي الذي يريده أي لاعب هجومي، ومما يثبت ذلك، أن أكثر ثلاثة فرق أتمت مراوغات ناجحة في دوري أبطال أوروبا منذ موسم 2010-2011، اثنان منها يقودهما إنريكي:
أكثر الأندية مراوغات صحيحة في دوري أبطال أوروبا خلال آخر 15 موسمًا | عدد المراوغات | الموسم |
برشلونة بقيادة لويس إنريكي | 238 مراوغة صحيحة | 2015-2014 |
برشلونة بقيادة جوارديولا | 207 مراوغة صحيحة | 2011-2010 |
باريس سان جيرمان بقيادة لويس إنريكي | 195 مراوغة صحيحة | 2025-2024 |
أما ريال مدريد، فالوضع مختلف. غياب صانعي اللعب التقليديين مثل كروس ومودريتش، والاعتماد على المهارات الفردية للنجوم مثل فينيسيوس جونيور وجود بيلينجهام، أدى إلى ضعف في اللعب الجماعي، وخلق فراغًا في أسلوب بناء الهجمة المنظم.

ريال مدريد رغم أنه ضم أحد أفضل اللاعبين في العالم إلا أنه كما ذكرنا سابقا، فإن عدد الأهداف المتوقعة للفريق لم تتغير كثيرًا بين الموسم الماضي والحالي، مما يعني أنه لم يحسن استغلال وجود مبابي، وهذا بالطبع مسؤولية المدرب وصانعي الألعاب في الفريق.
عدد الاهداف المتوقعة لريال مدريد | الموسم |
70.56 هدف متوقع | 2024-2023 |
69.29 هدف متوقع | 2025-2024 |
حتى على مستوى النتائج:
- ريال مدريد فشل في بلوغ نصف نهائي دوري الأبطال لأول مرة منذ خمس سنوات
- خسر كأس ملك إسبانيا
- يحتل المركز الثاني في الدوري بفارق 7 نقاط عن برشلونة
- خسر السوبر الإسباني
- خسر جميع مبارياته الأربعة أمام برشلونة في الموسم الحالي (في الدوري والكأس والسوبر الإسباني)
الإنجازان الوحيدان اللذان تحققا هما كأس السوبر الأوروبي وكأس فيفا إنتركونتننتال، وكلاهما من مباراة واحدة.
وعلى مستوى الأرقام الفردية لمبابي:
عدد الفرص المحققة التي أهدرها مبابي | الموسم |
12 فرصة محققة مهدرة | 2024-2023 مع باريس سان جيرمان |
23 فرصة محققة مهدرة | 2025-2024 مع ريال مدريد |
رغم هذه الفرص المهدرة، إلا أن مبابي سجل 27 هدفًا في الدوري هذا الموسم ورغم تصدره ترتيب الهدافين، ومنافسته على جائزة الحذاء الذهبي الأوروبية، إلا أن هذه الأهداف لم تكن كافية لتحقيق أي بطولة كبرى مع ريال مدريد. والسؤال المطروح هنا: ما الذي كان يمكن أن يقدمه مبابي في بيئة أكثر استقرارًا وتماسكًا مثل باريس؟

قرار مبابي.. بين المجد الشخصي والمشروع الجماعي
في النهاية، لا توجد إجابة قاطعة، مبابي لاعب استثنائي، واختياره للانتقال إلى ريال مدريد جاء بحثًا عن المجد الأوروبي والتاريخ الشخصي، ولا يوجد لاعب يمكنه رفض الانضمام لريال مدريد، وبالنظر لسير المفاوضات منذ بدايتها فإن مبابي انتظر ولم يكن متعجلًا في إتمام الصفقة، وربما اعتقد أنه حانت اللحظة المناسبة في الصيف الماضي.
لكن الأرقام والواقع يقولان إنه كان على بعد شهور قليلة من قيادة مشروع جماعي متكامل، وشاب، ومنظم، وممتع، ومبني حوله، لتحقيق إنجازات ربما كانت ستضعه في مرتبة تاريخية مختلفة ومن ثم يمكنه أن ينتقل بعدها إلى ريال مدريد.
فهل كان على مبابي أن يصبر موسم واحد فقط؟ وهل خسر أكثر مما كسب؟ السؤال مشروع، والإجابة متروكة للمستقبل.