365TOPالدوري الإسبانيتقارير ومقالات خاصة365TOP
الأكثر تداولًا

تشكيل ريال مدريد مع تشابي ألونسو.. توزيع جديد لأوركسترا عانت من النشاز

ليس هناك ارتباط مباشر بين الموسيقى وكرة القدم، ربما يشبَّهُ الجمهور بعض الأساليب داخل الملعب بالمعزوفات، لكن هذه التشبيهات تظل مجرد استعاراتٍ خارجة عن السياق، قد تكون بليغة، وقد تكون خيالية أكثر من اللازم، ولكن، ماذا لو كان التشابه الحقيقي يكمن في الهيكل الخفي الذي يُنظّم الفوضى؟ فكما تعتمد المقطوعة الموسيقية على إيقاعٍ مُحكمٍ يربط بين النوتات المتباينة، تعتمد الكرة الحديثة على “الهيكلية التكتيكية” التي تحوّل الارتجال إلى خطة، والتجليات الفردية إلى سيمفونية جماعية.

وهذا بالضبط ما يفعله تشابي ألونسو، هو لا يقارن كرة القدم بالموسيقى، بل يستعير منها فلسفة البناء المتصاعد، مثل مقطوعة “بوليرو” التي تبدأ بطبلةٍ وحيدة ذات إيقاع ثابت، ثم تتفجر بكل الآلات في تناغمٍ مدهش، تنطلق تكتيكات ألونسو من أبسط المفاهيم (التمرير القصير والضغط العالي) لتصل إلى ذروةٍ معقدةٍ (هجمات مرتدة كالإعصار)، الفارق الوحيد هو أن “النوتات” هنا هي أقدام اللاعبين، و”المايسترو” هو مدربٌ يعرف أن الجمال الحقيقي لا يُولد من الفراغ، بل من قيودٍ صارمة تُشبه الميزان الموسيقي.

لذا، عندما نستخدم تشبيه “بوليرو”، فنحن لا نتحدث عن تشابه سطحي، بل عن تقاطعٍ جوهري بين نظامين:

  • النظام الموسيقي: قائم على تتابع النوتات في توقيتٍ محدد. 
  • النظام الكروي: قائم على تتابع التمريرات في توقيتٍ أكثر دقة. 

الرابط المنطقي بينهما؟ كلاهما يُحوِّل الفوضى إلى حركات منسجمة عبر قواعد غير مرئية، وهذا بالضبط ما سيحاول تشابي ألونسو فعله في ريال مدريد. (ملحوظة هامة: يفضل الاستماع إلى المقطوعة أولًا قبل استكمال القراءة، نعرف أنه طلب ثقيل بعض الشيء، ولكننا نأمل في بعض التعاون حتى تصل الفكرة كاملةً، ولكن إن لم تفعل، فلا داعي للقلق، سنشرح جوهرها في السطور القادمة على أي حال).

احتضان الفوضى

ليس من السهل أن نفسر كيف يُنهي ريال مدريد مبارياته بهذه الطريقة الدرامية: بدايات مترنحة، وسطوة جماعية غائبة، ثم فجأة، يسطو لاعب ما على الكرة ليحدث التحول الكبير في سير المباراة،  قد يظن البعض أن هذا مجرد “حظ” أو “عبقرية عشوائية”، لكن كارلو أنشيلوتي يعرف أن السر هنا يكمن في فلسفةٍ تكتيكية مُغايرة، ترفض حَشر اللاعبين في قوالب صلبة، وتستبدل الخطط المُفصّلة بـ”إطار عام” بسيط، كمساحةٍ فارغة تنتظر أن يملأها الارتجال.

الإيقاع الأساسي كان موجودًا، لكن العازفين كانوا أحرارًا أيضًا في خلق نوتاتهم الخاصة، وبذلك يعتمد نظام أنشيلوتي على مفارقة غريبة للغاية: كلما قلّت القيود التكتيكية، زادت سيطرة الفريق النفسية، ولكن هل يمكن لهذا النموذج أن يستمر دون عقاب؟ الجواب يعتمد على شيئين: أولًا وجود عازفين عباقرة قادرين على تحويل الفوضى إلى لحظات تاريخية، وثانيًا القدرة على إعادة اختراع الإيقاع كلما غادر عازفٌ أو حلّ محلّه آخر. 

لوهلة، بدا أن فلسفة أنشيلوتي في “احتضان الفوضى” هي الوصفة السحرية لعصرٍ جديد داخل النادي، سنواتٌ من الارتجال الناجح، وألقابٌ مُتتالية، وأهدافٌ درامية حوّلت الفريق إلى حالة أسطورية وغريبة أكثر منها حادثة اجتماعية يمكن رصدها وتتبعها، لكن المفارقة، أن الأسطورة نفسها كانت تحمل جرثومة سقوطها، فكما تعلمنا من الفيالقة والموسيقيين القدام، أن الجاز العظيم والموسيقى الجيدة، لا تعيش طويلًا دون وجود مايسترو يُعيد تنظيم الإيقاع عندما يتحول الإرتجال إلى فوضى عشوائية. 

الغريب، أن هذا هو ما يعرفه أنشيلوتي نفسه؛ فمن الصعب القول أن مدربًا مخضرمًا مثله لا يعرف أن “الجاز” لا يُعزف بنفس الروح مع كل جيل، لكنه، ورغم ذلك، راهن على شيءٍ واحد فقط، أن الفوضى في ريال مدريد، هي التي تُورِثُ المجد، وقد نجحت تلك الفلسفة فعلًا، لكنها كانت كالطير، كلما ارتفع، وقع. 

ولذلك فقد أصابته نفس الفلسفة في مقتله بعد ذلك، ثم سقط كل شئ على رأسه تباعًا، ودون أدنى قدرة منه على ضبط النتائج أو الأسباب، ببساطة لأن كل شئ كان أشبه بـ “مراجيح المولد”، فلا توجد أسباب أصلًا، ولا وجود لسلسلة أفعال منطقية يمكن رصدها والتحكم فيها، وبناءً عليه يمكن رصد نتائجها ومدى فاعليتها. 

وهنا يأتي دور تشابي ألونسو في تنظيف تلك الفوضى والبدء من جديد، حاملًا نفس روح “بوليرو” لكن بقالبٍ مختلف: لا ارتجال دون إطار، ولا فوضى دون ضابط إيقاع، ألونسو يعرف جيدًا (باعتباره اسبانيًا والمقطوعة بها نفسٌ أندلسي رغم كون مؤلفها هو الفرنسي “رافيل”)، أن “بوليرو” لم تنجح لأنها جميلة وخلابة فحسب، بل لأنها تتبع مسارًا صارمًا وثابتًا نحو الذروة، وتحتاج إلى ثلاث أشياء للعمل:

  1. البناء الهادئ: عن طريق إعادة تعريف التمريرات والبناء من الخلف لتكون جزءًا من خطة، لا مجرد تسليم  عشوائي للكرة. 
  2. الضغط المُتصاعد: عن طريق خطوط متوازية تُعيد الكرة بسرعة، لكن بتوقيتٍ محسوبٍ كنبضات القلب. 
  3. الانفجار المنضبط: من خلال هجمات مرتدة لا تُترك للصدفة، بل تُحاك في غرف التحليل التكتيكي.

ولكن، هل يعني هذا نهاية “العبقرية الفردية” في ريال مدريد؟ بالعكس، ستصبح العبقرية جزءًا من نظامٍ أكبر. فكما تحتاج مقطوعة بوليرو إلى عازف كمانٍ متمرد لخلق الإثارة، سيحتاج ألونسو إلى فينيسيوس وبيلينجهام لكتابة النهايات، لكن هذه المرة، سيكون التمرد مُسجّلاً داخل النوتة، وليس دخيلًا عليها، فعودة تشابي ألونسو إلى سانتياجو برنابيو تُشبه إحياء مقطوعة قديمة بأدواتٍ جديدة: الإثارة موجودة، والجمهور يتوق لسماع اللحن، لكن الأسئلة تلاحق قدرة المايسترو على تحويل النوتات إلى واقع,.

ريال مدريد، الذي عانى طوال الموسم لتحقيق التوازن بين الهجوم والدفاع، يبدو الآن أمام مفترق طرق: إما أن يستسلم لـ”فوضى الجاز” التي ورثها من أنشيلوتي، أو ينغمس في “بوليرو” ألونسو الصارمة، حيث كل خطوة تُحسب بدقة، فأنشيلوتي، بثقته العمياء في القوة الهجومية، تحوّل إلى ساحرٍ يُغطي ثغرات فريقه بأهدافٍ درامية، لكن السحر انكشف عندما أصبح الدفاع أشبه بجدارٍ من قش، ثم أصبح الهجوم مجرد ارتجالات وخيالات فردية. 

أما ألونسو، فمن ناحيته، يحمل رؤيةً مختلفة تمامًا: تنظيمٌ تكتيكي يُشبه إيقاع “بوليرو” الشهير، يبدأ بتمريرات قصيرة هادئة، ثم يزيد الضغط تدريجيًا حتى ينفجر بهجمةٍ مرتدة خانقة، الفرق بين الرجلين ليس في الفلسفة فحسب، بل في الإيقاع: أنشيلوتي يعزف على وتر الحظ، بينما ألونسو يعزف على وتر الخطة.

المشكلة أن جمهور ريال مدريد تعوّد على المعجزات والخيارات المتطرفة، وقد يرفض التخلي عن دراماتيكية المباريات حتى لو كانت الثمن هو الفوضى المُستمرة، ولذلك فنحن نعتقد فيما نعتقده أن ألونسو سيُجبرهم على الاختيار: إما كرةٌ مُنظمة، أو استمرار في موسيقى الشوارع التي قد تُسلي اليوم، لكنها لن تبني الأمجاد غدًا، ولذلك أيضًا، فالتحدي الحقيقي أمام الرجل ليس في تغيير تكتيكات الفريق فقط، بل في إقناع الجميع بأن النظام قد يحمل إثارة جديدة.

السلم الموسيقي

لا يُمكن تجاهل حجم التحوّل الذي صنعه تشابي ألونسو في باير ليفركوزن. عندما تولى المسؤولية في أكتوبر 2022، كان الفريق يرزح في المركز السابع عشر بالبوندسليجا، بعد فوزٍ وحيدٍ فقط في ثماني مباريات، خلال 18 شهرًا فقط، حوّله إلى آلةٍ لا تُهزم محليًا، حاصدًا الدوري والكأس، ومتأهلًا إلى نهائي أوروبي.

والسرّ لم يكن سحريًا، بل منهجيًا، بيانات الأهداف المتوقعة (xG) تُظهر تحسنًا فوريًا في فرص الفريق بعد مجيء ألونسو، حيث انخفضت فرص الخصوم بشكلٍ ملحوظ، بفضل تركيزه على الصلابة الدفاعية والتعافي السريع، أما التغيير الحقيقي فجاء في الصيف التالي بعد التعزيزاتٍ الذكية: أليخاندرو جريمالدو (الـ Full Back الطائر)، وجرانيت تشاكا (صانع الألعاب المنضبط)، وفيكتور بونيفاس (المهاجم الجامح)، هذه الصفقات لم تكن مجرد إضافات، بل قطعًا في أحجيةٍ خططها الإسباني بعناية، لتحويل الفوضى إلى نظامٍ يلهث خلف الانتصارات.

وفي موسم 2023-2024 تحوّل التحسن الطفيف إلى انفجارٍ هجومي حيث سجّل ليفركوزن هدفين أو أكثر في كل مباراة من مبارياته الـ15 الأولى، مُتجهًا نحو لقب البوندسليجا بدون هزيمة، لكن الأمور تعقّدت قليلًا في الموسم التالي (2024-2025)، حيث تراجعت الكفاءة الهجومية، كما يُظهر الرسم البياني السابق، خاصة في النصف الثاني، ورغم الخروج المُخيب من الكؤوس المحلية والأوروبية، خسر الفريق مرتين فقط في 32 مباراة بالدوري، وحلّ بصدارة البطولة بثاني أعلى عدد نقاط في تاريخ النادي، بعد موسمه الأسطوري السابق.

قد يبدو هذا تراجعًا نسبيًا، لكن المعايير التي وضعها ألونسو في الموسم الأول (53 مباراة بدون هزيمة) كانت استثنائيةً ويصعب تكرارها، ولذلك فلا وجود لأي تراجع حقيقي خاصة على مستوى الانضباط التكتيكي، فنظامه التكتيكي (3-4-2-1) اعتمد على تقدمٍ هادئ أنيق، مع استغلالٍ ذكي للأظهرة جريمالدو وفريمبونج، اللذين تحولا إلى محرّكين رئيسيين للهجمات، وحولا كل خطة مرسومة على الورق، إلا آلية دقيقة تجعل كل تمريرة  تهديد، وكل انطلاقة على الخط كابوس للخصوم. 

هذه النقلة لم تكن لتحدث لولا رؤية ألونسو التي تجمع بين الجرأة والانضباط، وهو نفس المزيج الذي سيحاول تطبيقه في ريال مدريد، ولذلك يأتي السؤال: هل يمكن نقل “معجزة ليفركوزن” إلى ناديٍ يختلف في توقعاته وضغوطه؟

اختراق النوتة

قبل الإجابة عن السؤال السابق، يجب أولا فهم آلية عمل فرق ألونسو بشكل أعمق قليلًا، حسنًا؛ في تحليله لمباراة باير ليفركوزن الأخيرة أمام هايدنهايم، لماذا تلك المباراة تحديدًا؟ لأن الكاتب والمحلل التكتيكي مارك كاري، من مجلة “ذي أثليتيك“، يرى أن بصمة ألونسو التكتيكية كانت واضحةً للغاية، أزماته وجودته تداخلا معًا في مكعب واحد، ولنبدأ بالتشكيل: تكون التشكيل من: خط دفاعٍ ثلاثي، مع ظهيرين (جريمالدو وفريمبونج) يتحركان كجناحين هجوميين، وصانع ألعاب (جرانيت تشاكا) يُنظّم الإيقاع من العمق، وثنائي هجومي خلف المهاجم (أمين عدلي وناثان تيلا) يُشكلان خطرًا في نصف المساحات. 

وحتى مع غياب فلوريان فيرتز بسبب الإصابة، حافظ النظام على أناقته، معتمدًا على تبادل للأدوار وحركية بين اللاعبين، نٌفذت بدقةٍ تُذكّرنا بلوحات “جويا” في متحف “برادو”: كل ضربة فرشاة مُحسوبة، لكنها تترك مساحةٌ للعبقرية العفوية، وهذا هو سرُّ “بوليرو” ألونسو: ليست خطة جامدة، بل موسيقى مُصممة لترك مساحةٍ للارتجال.

كلام جيد جدًا، ولكن هذا لا يعني أن الأمور ظلت تسير بوتيرة واحدة طوال الوقت، بالطبع لا ففي نفس المباراة عانى الفريق أمام الضغط، كما تميّزت المباراة بلحظاتٍ من التوتر والقلق أثناء الاستحواذ على الكرة من جانب فريق ألونسو، الذي تأثر بالقوة البدنية العالية لمضيفه، وتحول معظم اللاعبين فجأة إلى أطفال يتعلمون ركل الكرة للمرة الأولى، ما جعل ألونسو يدرك أن فريقه لم يعد ذلك “الصيَّاد” المخيف الذي يطارد الكرة، بل تحوَّل إلى فريسةٍ تُطاردها ضغوط الخصوم. 

ولذلك قرر الرجل أيضًا تفكيك “السيمفونية الثلاثية” (3-4-2-1) التي ألِفها الجميع، واستبدلها بـتشكيلاتٍ مرنة أشبه بمشاهدَ متقطعة من فيلم نوار، فصدق أو لا تصدق؛ ألونسو لم يؤمن قط بوحدة التشكيل، بل آمن بوحدة الأفكار والتحركات، ورغم أن نظام 3-4-2-1 كان البطل الرئيسي في حقبته المثيرة، إلا أنه لم يكن أسيرًا له، إذ بدا في بعض الأوقات كـ ديكور قديم في فيلمٍ حديث، ما استدعى من المخرج تغيير المشهد بأسره، فانتقلت الكاميرا إلى مشهد من أربعة مدافعين، وخط وسطٍ أكثر انضباطًا.  

هذا التحوُّل لم يكن مفاجئًا لمن تتبع مسيرته، ففي “ريال سوسيداد ب”، حيثُ بدأ رحلته، كان ألونسو يلعب بتشكيلات متفرقة من ـ4-3-3 أو 4-2-3-1، لكنه، على الرغم من هذا التنوع، ظل مُخلصًا لـنغمة أساسية وواحدة: الاستحواذ هادئ، والضغط العالي المكثف، ثم الضغط العكسي المكثف أيضًا بعد فقدان الكرة، والتقدمٌ المركزيٌّ كالسكين في الحلوى، ولذلك فالرجل لم يتغير كثيرًا في تلك الفترة عن فترته في سوسيداد، وبالتالي فغالب الظن أنه لن يتغير في مدريد، لن يتغير، ولكن عليه أن يغير الكثير من الأمور. 

 التكتيك ليس عقيدة، بل لغةٌ قابلة لإعادة التشكيل

تشابي ألونسو.. عقيدة الضاحية

يُعتبر تشابي ألونسو أحد أبرز المدربين القادرين على تحويل نقاط القوة في أي فريق إلى أسلحة فعّالة، وهو ما أثبته خلال مسيرته مع باير ليفركوزن، حيث نجح في بناء فريقٍ متكامل، اعتمد على تعظيم مهارات اللاعبين ضمن نظامٍ تكتيكي مرن حوّلهم من أفرادٍ عاديين إلى نجومٍ مؤثرين، ومع انتقاله إلى ريال مدريد، ستكون مهمته أكثر تعقيدًا، فالأمر أشبه بالانتقال من قاعة حفلات صغيرة إلى مسرح لا سكالا،حيثُ  نغمة تُسمع، وكل خطأ يُدوّي، كما أن الثروة التشكيلية التي سيرثها تُشكل فرصةً وتحديًا في آنٍ واحد.  

الفرصة هي فتح الخزائن والتعاقدات (مثل صفقة أرنولد) والتعامل مع دفعات مالية ضخمة، أما التحدي فهو مدى قدرته على غزل هيكل دفاعي متماسك، وتعويض النواقص خاصةً في مراكز قلب الدفاع، ووسط الملعب، والظهير الأيسر، تلك المناطق تحتاج إلى تعزيزاتٍ عاجلة لموازنة القوة الهجومية التي يتمتع بها الفريق، بمناسبة القوة الهجومية؛ هناك تحدي آخر يتمثل في مدى قدرته على تشذيب تلك الفورة الهجومية الثقيلة على معدة الفريق، فالأسماء اللامعة والكثيرة جدًا، لم تستطع ضبط صيغة للتفاهم حتى تلك اللحظة، ولكن هذا يمكن ضبطه مع الوقت، أما الأزمة الحقيقية فعلًا، فدفاعية. 

مشاكل ريال مدريد الدفاعية هذا الموسم تشبه أداءً مبتورًا لـمقطوعة كلاسيكية: الإيقاع متكرر، لكن العازفين لا يتناغمون، خاصة مع وجود متوسط أهداف متوقعة يبلغ 1.1 لكل مباراة (خامس أفضل في الليغا)، ورغم ذلك يبدو الفريق كفرقة موسيقية تعتمد على لحنٍ هجومي ساحر (فينيسيوس، بيلينجهام) لتغطية أخطاء الإيقاع الدفاعي، المشكلة أن الخصوم أدركوا أن القصاص المدريدي ينقصه الانسجام بين الآلات: خط الهجوم لا يضغط، والخط الدفاعي يترك مساحاتٍ تعمل كبيئة خصبة جدًا للهجماتٍ المضادة.

وإليك مثال: في مباراة الذهاب ضد أرسنال بدوري الأبطال، تجسدت هذه الاختلالات بوضوح،  تشكيل 4-4-2 السلبي سمح للاعبين مثل لويس-سكيلي بالتقدم كعازف منفرد وسط ملعب شبه خالٍ، بينما وقف فينيسيوس ومبابي كـجمهورٍ سلبي يُشاهد الأحداث، والنتيجة؟ تمريرتان بسيطتان أوصلتا الكرة لأوديجارد، الذي حوَّلها إلى هجمةٍ سريعة ثم هدف، المشكلة هنا لم في نقص المواهب، بل في غياب قائد الأوركسترا الذي يضمن تناغم الآلات، وليس تناغمها فقط، بل جديتها في تنفيذ المطلوب أيضًا.

وفي الهزيمة الكارثية 4-0 أمام برشلونة في أكتوبر، تمكن مارك كاسادو من التقدم من وسط الملعب وتجاوز متجاوزًا ثنائي هجوم ريال مدريد الذي وقف كـالصنم دون أي ضغط أو مضايقات تذكر، قبل أن يمرر الكرة إلى روبرت ليفاندوفسكي الذي حول إياها إلى هدف عجيب، هدف جاء أساسًا بسبب كسل لاعبي مدريد في الضغط.

ما بعد البوليرو 

هذا هو الإرث الذي سيرثه تشابي في مدريد، ولكن المطمئن بعض الشئ بالنسبة لجمهور الميرنجي، أنه عالج تلك الأزمات من قبل، حيث حوَّل الدفاع في ليفركوزن إلى فنٍّ استباقي: تمركز ذكي، وضغطٌ مرتفع كالسيف المسلط، واستعادة سريعة للكرة، حيث كان معدل استحواذهم في الثلث الهجومي (5.2 لكل مباراة)، وظلَّ ذلك الرقم هو الأعلى في البوندسليجا لموسمَيْن متتاليين، ليس كرقمٍ مجرد، بل كتعبير عن فلسفةٍ تجعل من الاسترداد الهجومي ذروة المقطوعة.

هنا، حتى الأرقام الدفاعية تُصبح جزءًا من الهجوم، فالضغط المضاد ليس مجرد إشعار لاستعادة الكرة، بل إشارة بدء لهجمةٍ مرتدة، أشبه بحركة متصاعدة في “بوليرو” رافيل المتمردة: تبدأ كما قلنا سابقًا بنقراتٍ هادئة (استرداد الكرة)، ثم تتسارع الطبول (التمريرات السريعة)، حتى تنفجر الأبواق (التسديدات القاتلة)، فالفريق لا يهرب من المواجهة، بل يفرض إيقاعه الخاص، حتى لو اضطر إلى كسر إيقاع الخصم أولًا. 

تشابي ألونسو - باير ليفركوزن
تشابي ألونسو – باير ليفركوزن (المصدر:Gettyimages)

وانظر إلى هدف النيجيري ناثان تيلا ضد دورتموند في يناير الماضي، بعد 24 ثانية فقط من صافرة البداية، حيث اعتمد ليفركوزن هنا على “نوتة الرجل للرجل”، حيث ارتبط كل لاعب بخصمه كارتباط وترٍ بقيثارة، يُضيِّق المساحات ويُجبر المنافس على العزف خارج الإيقاع، لم يكن الاستحواذ هو الهدف، بل تشتيت سيمفونية الخصم، حتى لو أدى ذلك إلى حرق جميع المراكب. النتيجة؟ عندما تُنفذ النوتة بدقة، تتحول الهجمة المرتدة إلى لوحة مُبهرة وقوية، كتلك التي رسمها تيلا في شباك دورتموند.

وبناءً عليه، تُشير التجربة السابقة إلى أن ألونسو قادر على صناعة المعجزات، لكن في مدريد، المعجزة الوحيدة المقبولة هي الفوز الدائم، الثقة التي منحها النادي له هي فخ في الحقيقة، واختبارٌ لمدى قدرته على تحويل “الفوضى المُنظمة” إلى “نظامٍ مُبتكر”، قد تكون البداية صعبة، خاصةً مع جمهورٍ تعوّد على دراما الأهداف الأخيرة، لكن لو نجح في إيجاد توازنٍ ما بين الصلابة الدفاعية والشراسة الهجومية، فسيُصبح “بوليرو” ألونسو هو النشيد الوطني الجديد للميرنجي، نشيدٌ سيُردده عشاق الملكي لأعوام قادمة، ولكن كيف سيفعل ذلك تحديدًا، وما هي الأدوات التي سيستند عليها؟ 

تنظيم السردية

تشابي ألونسو لم يكن يومًا من المدربين النهمين الميركاتو، إذ يبحث عن أدوات تُناسب الأوركسترا، ونظامه القائم على الضغط العالي، والتمريرات السريعة، والهجمات المرتدة، يحتاج إلى مجموعة مُحددة من المهارات داخل تشكيلة ريال مدريد:

  1. جود بيلينجهام: دوره سيكون أشبه بــ مهندس الإيقاع في مقطوعة بوليرو، سيتحرك بين خطي الدفاع والهجوم لضبط سرعة اللعب، وقدرته الجيدة على استعادة الكرة (2 استعادة لكل مباراة في الليجا) ستُعزز الضغط المضاد، إضافة إلى مرونته في اللعب كلاعب صندوق أو مُهاجم ثانوي تُناسب تكتيك ألونسو القائم على التناوب الوظيفي.
  1. فينيسيوس جونيور: الكمان المتمرد الذي سيُحوّل الهجمات المرتدة إلى نوتاتٍ سريعة، سرعته التي تتجاوز في بعض الأوقات (35.8 كم/ساعة) وقدرته على المراوغة ستكون سلاحًا في الهجمات المباشرة، وربما يتحول من جناح تقليدي إلى مهاجم ثانوي يتحرك بحرية بين الخطوط، مستفيدًا من تمريرات بيلينجهام الطويلة، لكن بشرط أن يسعى ألونسو لتطوير وعيه التكتيكي، بحيث يكون قادرًا على الضغط بنجاعة عند فقدان الكرة.
  1. أورلين تشواميني: دوره كـحارس للإيقاع سيكون محوريًا في بناء الهجمات من العمق،  دقته في التمريرات الطويلة (89%) ستُسرّع الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، ولكنه قد يحتاج إلى تحسين مهاراته في التمركز لسد الفجوات التي تتركها الهجمات المرتدة.
  1. إدواردو كامافينجا: اللاعب السائل القادر على تغطية أي مركز، وقد يتحول إلى ظهير أيسر هجومي في تشكيل 3-4-2-1، كما حدث مع جريمالدو في ليفركوزن.
  1. أردا جولر: قد يُصبح هو مفاجأة النظام الجديد، رؤيته التمريرية الجيدة، وقدرته على التسديد من خارج الصندوق قد تمنح الفريق حلولًا إبداعية، ربما يحتاج فقط إلى تطوير لياقته الدفاعية لتتناسب مع أسلوب الضغط الجديد.

وإذا نجح ريال مدريد في تحقيق جميع أهدافه من الميركاتو، مثل التعاقد مع أرنولد، وويليام ساليبا لاعب أرسنال، ودين هويسن لاعب بورنموث، وميجيل جوتيريز لاعب جيرونا، ، فقد يعتمد على خطة تتكون من 3-4-2-1، وقد يُبنى ذلك أيضًا عودة تيبو كورتوا للمشاركة في حراسة المرمى، مع انضمام ساليبا وتشاوميني وروديجير في خط الدفاع الثلاثي، ونتيجة لذلك، قد يُستبعد ديفيد ألابا من التشكيلة الأساسية،  وفي خط الهجوم، قد يلعب أرنولد وكاريراس كظهيرين (Full backs). 

وربما يتحول أورليان تشواميني إلى مهندس في العمق، لاعبٌ يتحرك كظلٍّ بين خطي الدفاع والوسط، قادرٌ على التحول إلى قلعة دفاعية عند الحاجة، أو الانطلاق كقائدٍ لبناء الهجمات من العدم، أما أردا جولر، فقد يلعب دور الساحر المختبئ خلف المهاجمين، ناثرًا تمريراته السحرية كشخصية “ليستر” في فيلم Inception، محوّلاً الفراغات إلى لسعات قاتلة.

أما فينيسيوس فلن يكون مجرد جناح تقليدي مثلما كان سابقًا، بل ربما يكون المُخرِج الذي يوجه ضوء المسرح نحو الأطراف، خالقًا مساحات يستطيع ألونسو العمل فيها لخلق ضعيات 1 ضد 1، بينما يعود جود بيلينجهام إلى مركزه الطبيعي كلاعب وسط رقم 8، وهكذا، سيصبح التشكيل أشبه بحركة مونتاج سريع: دفاعٌ ثلاثي مرن، ظهيران متحركان، وخط وسط هجين يجمع بين القوة والسحر، وذلك السيناريو لن يعتمد على الأسماء فقط، بل على إعادة تعريف المواهب، وهو ما أتقنه ألونسو دائمًا.

نشعر أنك تهت قليلًا، ولذلك نقول باختصار مخل، أن تشكيل ريال مدريد تحت قيادة ألونسو قد يتحول إلى: 

  • حراسة المرمى: تيبو كورتوا 
  • خط الدفاع: هويسن تشواميني روديجر 
  • خط الوسط: أرنولد فالفيردي بيلينجهام جولر كاريراس 
  • خط الهجوم: مبابي وفينيسيوس

ريال مدريد يقف على أعتاب تحوّلٍ تاريخي تحت قيادة تشابي ألونسو، ستتحول فيه التكتيكات من فوضى “الجاز” العشوائي إلى دقة “بوليرو” المنضبطة، من الاعتماد على الارتجال الفردي إلى بناء نظامٍ يُحوِّل كل لمسة كرة إلى نغمة في سيمفونية جماعية، ولذلك يبقى السؤال: هل سيقبل هؤلاء النجوم العزف ضمن “مقامات” ألونسو الصارمة؟

محمود ليالي

كاتب وصحفي رياضي مصري من مواليد 1999، مهتم بالتحليل الرياضي خاصة الكروي، والجوانب الاحصائية والتكتيكية والخططية المتعلقة به، بالإضافة لمساحات الالتماس مع الاجتماع والسياسة والحياة، كتب لعدة مواقع مصرية وعربية مثل الجزيرة نت وميدان ورصيف22 ومواطن وألترا صوت، وشاعر صدر له ديوان "البقايا" عام ٢٠٢٣.