
في مقابلة أجراها اللاعب الإنجليزي ديلي آلي مع جاري نيفيل على بودكاست “The Overlap” كشف آلي عن معاناته من إدمان الحبوب المنومة، معلنًا عودته من برنامج تأهيلي مكثف استمر ستة أسابيع في الولايات المتحدة، قالها هكذا، ربما كوسيلة للتطهر، أو لمصارعة الماضي، لا نعلم بالضبط، ولكن ما نعلمه أن تصريحاته كشفت عن أزمة عميقة الأسباب، ومتشعبة الأغصان.
ربط آلي إدمانه بشكل مباشر بالصدمات التي تعرض لها في طفولته المبكرة، بما في ذلك تعرضه للاعتداء الجنسي في سن السادسة وتجاربه في بيع المخدرات في سن الثامنة. هذه الخلفية القاسية، التي أورثته اضطرابات نفسية لم يتعامل معها، هي ما أدت به إلى البحث عن مخرج من الأرق المتواصل الذي كان يطارده، فلم يكن اللجوء إلى الحبوب المنومة مجرد خيار، بل كان نتيجة منطقية لسلسلة من الأحداث المأساوية التي تسببت في صراع نفسي داخلي.
وفي ذروة صراحته، أشار آلي إلى أن هذه المشكلة “تنتشر بين الكثير من اللاعبين، أكثر مما يتصوره الناس”. هذا التصريح تحديدًا، هو ما حوّل قصته من مأساة شخصية إلى دعوة ملحة للتعامل مع وباء صامت يجتاح الملاعب، ويستهدف نخبة اللاعبين الذين يُنظر إليهم على أنهم قدوة في القوة والتحمل.
جبل الجليد
ما كشف عنه ديلي آلي لم يكن سوى قمة جبل الجليد لظاهرة أوسع نطاقًا، يمكن وصفها بـ “وباء الإدمان” الذي ضرب كرة القدم فجأة، حيث كشف اتحاد اللاعبين المحترفين (PFA) عن أحدث بياناته لموسم 2023-24، والتي توضح أن 530 لاعبًا تلقوا علاجًا لمشكلات متنوعة تتعلق بالإدمان والصحة النفسية، من بين هؤلاء، طلب 80 لاعبًا المساعدة تحديدًا لمشاكل مرتبطة بـ “إدمان الحبوب المنومة والكحول”.
أرقام كبيرة، حسنًا، دعنا هنا نخبرك أن هذه الأرقام لا تمثل إلا جزءًا يسيرًا من الواقع، ببساطة لأنها لم تشمل الحالات التي طلبت العلاج بشكل خاص خوفًا من الوصمة الاجتماعية، وقد تعددت الشهادات الفردية التي تؤكد هذه الأزمة وتحذر منها بمنتهى الجدية، حيث حذر المدافع السابق لنادي وست هام، رايان كريسويل، من أن الإدمان على الحبوب المنومة أصبح “مشكلة كبيرة” تؤثر على لاعبين في أعلى المستويات.
كريسويل، الذي كادت تجربته مع الإدمان أن تودي بحياته، يصف كيف بدأت معاناته بـ “حبة واحدة بعد كل مباراة” لمساعدته على النوم، ثم تحولت إلى “حبة أو اثنتين في اليوم”، مما أدى إلى اعتماد جسده بالكامل على تلك الحبوب كي يستطيع النوم بعد يوم طويل ومجهد، وفي حديثه لصحيفة الجارديان، أكد أن العديد من اللاعبين يستهلكون “الكثير من الحبوب المنومة ومسكنات الألم” يوميًا، ودون علم الأندية.
وبحسب تقارير صحفية عديدة يلجأ العديد من اللاعبين إلى السوق السوداء للحصول على حبوب “زوبيكلون” المنومة، في إشارة إلى أن المشكلة تتجاوز الأطر الطبية الرسمية إلى عالم غير منظم، خاصة وأن وجود تلك الأسواق السوداء يعني خوف اللاعبين العميق لدى اللاعبين من أن يؤثر الكشف عن مشكلاتهم النفسية على مسيرتهم المهنية، خاصة وأن الكل على شفا حفرةٍ من النار.
وكما يشرح الدكتور عيدان محمود زاده، الطبيب المتخصص في اضطرابات النوم، والمؤسس المشارك لمشروع “the sleep project”، فإن اللاعبين يخشون اللجوء إلى العلاج النفسي لأنهم، وركز في تلك الجملة، “لا يريدون منح مدربيهم سببًا لعدم إشراكهم”.
هذا الخوف من الوصمة الاجتماعية هو الذي يؤدي إلى دخول اللاعب في حلقة مفرغة من المعاناة الصامتة والتداوي الذاتي السري، ما يفسر كيف يمكن أن لوباء بهذا الحجم أن ينتشر، ودون الكشف عنه إلا عبر اعترافات شجاعة مثل اعترافات ديلي آلي.
View this post on Instagram
المحرك الخفي
يُعد النوم أحد أهم العوامل المحركة للأداء، وركيزة أساسية لا تقل أهمية عن التدريب والتغذية. يصفه الخبراء بأنه التدريب غير المرئي، وهو الفترة التي يقوم فيها الجسم والعقل بإعادة البناء والتجديد استعدادًا للمجهود القادم. نيك ليتلهيلز هو لاعب جولف محترف سابقا، ومدرب نوم، ونعم هناك وظيفة بهذا الاسم، أثبت لنا ذلك بالدليل القاطع.
بعدما عمل مع جاري باليستر مدافع مانشستر يونايتد، والذي كان يعاني من إصابة مزمنة في ظهره لا يُفلح معها العلاج التقليدي، وكان ليتلهيلز هو من اكتشف السبب، لماذا لا يستجيب باليستر للعلاج؟ لأن وضعية نومه كانت تعطل تجدد الخلايا، وتجهد عضلات ظهره، وهذا هو السبب الرئيس لفشل العلاج التقليدي، أي أن أسلوب نومه الخاطئ كان يلغي أثر العلاج البيولوجي، وهذا كل ما في الأمر، وعندما أصلح من طريقة وأسلوب النوم، استجاب للعلاج مباشرةً.
هذا الاستنتاج أحدث ضجة في الأوساط الرياضية، وبدأت الأندية جديًا في أخذ الأمر بجدية، في كتابه “علاج وتجنب إصابات كرة القدم” (Soccer Injury Prevention & Treatment)، يعتقد جون جالوتشي أن اضطرابات النوم لها ثلاثة مخاطر رئيسية على لاعبي كرة القدم، أهمها هو هو بطء ردود الأفعال، حيث أن زمن رد الفعل يتقلَّص بمقدار ثلاث مرات على الأقل في حالة حصول الرياضي على نوم هانئ.
أما على المستوى الفسيولوجي، يلعب النوم دورًا محوريًا في تعافي العضلات وإصلاح الأنسجة، فخلال مراحل النوم العميق، يطلق الجسم هرمون النمو البشري (HGH)، الذي يحفز نمو العضلات ويصلح الألياف التالفة بعد التدريب المكثف، وتشير الدراسات إلى أن قلة النوم تضعف هذه العملية، مما يزيد بشكل ملحوظ من خطر الإصابات.
وعلى المستوى العقلي، فإن النوم الكافي ضروري لتحسين الوظائف الإدراكية التي يعتمد عليها لاعبو كرة القدم بشكل كبير. فهو يعزز زمن رد الفعل، ويزيد من حدة التركيز الذهني، ويحسن القدرة على اتخاذ القرارات السريعة على أرض الملعب.
كما تثبت الدراسات وجود علاقة مباشرة وملموسة بين النوم والأداء؛ ففي دراسة شهيرة أُجريت على لاعبي كرة السلة الجامعيين، أدت زيادة ساعات نومهم من 5 ساعات إلى 10 ساعات إلى تحسين دقة تسديداتهم للرميات الحرة والثلاثية بنسبة 9%، وهو رقم ضخم للغاية إذا ما وضعناه على الميزان الرقمي، كما أن الحرمان من النوم أو اضطرابه يزيد من معدلات الكورتيزول، الهرمون المسؤول عن الضغط العصبي والنفسي، وهذه الزيادة تؤثر على صحة القرارات ودقتها.
وفي لعبة مثل كرة القدم، يكون الفارق بين دخول الكرة المرمى أو التصدي لها أجزاء من الثانية، وبالتالي فكل عقل داخل الملعب يجب أن يكون في قمة وعيه، وبالتالي فالتناقض بين الأداء المطلوب، والعواقب المدمرة لعدم الحصول على النوم الكافي هو ما يبرر إلحاح اللاعبين على البحث عن أي وسيلة للحصول على الراحة، حتى لو كانت خطيرة، ففي بيئة سامة ولا ترحم، يمكن أن تكون ليلة نوم سيئة هي الفارق بين الفوز والخسارة، مما يدفع اللاعبين للبحث عن أي حل فوري لمشكلة تتراكم أسبابها.
تحديات النوم
وعلى الرغم من الأهمية الحيوية للنوم، فإن حياة لاعب كرة القدم المحترف مليئة بالعوامل التي تعيق الحصول عليه بشكل طبيعي. هذه التحديات ليست مجرد عادات سيئة، بل هي تحديات منهجية مرتبطة بطبيعة المهنة نفسها، منها على سبيل المثال لا الحصر، الضغوط النفسية الناجمة عن شعبية اللعبة.
حيث يعيش اللاعبون تحت ضغط متواصل من الجماهير، والإعلام، وإدارة النادي، وحتى من أنفسهم لتحقيق أداء مثالي في كل مباراة. هذا القلق المستمر يمكن أن يؤدي إلى الأرق، وهو ما أكده ديلي آلي حين تحدث عن التأثير الذهني الخطير لخسارة مباراة واحد فقط، كما تُظهر الأبحاث أن هذا القلق يضعف القدرات الإدراكية، فاللاعبين الذين يعانون من قلق زائد يميلون إلى التفكير في عواقب الخسارة أكثر من الفوز، يتخيلون الفشل ويرونه متجسدًا أمامهم كل لحظة، مما يضعف من أداءهم بشكل مباشر.
كما تفرض الجداول المزدحمة للمباريات والسفر تحديات فسيولوجية ولوجستية كبيرة، فالمباريات التي تقام في وقت متأخر من الليل، والتدريبات الصباحية الباكرة، ورحلات السفر الدولية المتكررة عبر مناطق زمنية مختلفة، كلها عوامل تعطل الإيقاع البيولوجي الطبيعي للجسم، وقد أظهرت الأبحاث أيضًا أن السفر عبر 9 مناطق زمنية أو أكثر خلال العام الواحد، وخاصة السفر من الغرب باتجاه الشرق، يسبب تدهورًا كبيرًا في نوعية النوم ويزيد من الإرهاق الذهني والجسدي، والإرهاق يزيد من الإصابات.
والإصابات الجسدية والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من اللعبة، تفاقم المشكلة أكثر، فكما كشف لاعبون مثل رايان كريسويل، فإن الاعتماد على مسكنات الألم لعلاج الإصابات قد يتحول إلى “عكاز طويل الأمد” يقود إلى الإدمان، مما يفتح الباب أمام الاعتماد على مواد أخرى مثل الحبوب المنومة لتخدير الألم الجسدي والنفسي.
وأخيرا، تلعب العادات السلوكية دورًا مؤثرًا، فاستخدام الهواتف والأجهزة الإلكترونية قبل النوم هو عادة منتشرة بين اللاعبين، على الرغم من أن الضوء الأزرق المنبعث من هذه الشاشات يقلل من إنتاج هرمون الميلاتونين، مما يجعل النوم أكثر صعوبة.
هذه التحديات المنهجية تخلق بيئة يصعب فيها على اللاعب الحصول على نوم طبيعي، وفي مواجهة هذا الواقع، يظهر الحل السريع المتمثل في الحبوب المنومة كخيار مغرٍ، على الرغم من مخاطره الجسيمة. ولكن كيف تعمل هذه الحبوب؟
تُعد الحبوب المنومة، وخاصة أدوية “Z-drugs” مثل الزوبيكلون، من الأدوية التي تعمل على إبطاء نشاط الدماغ. وعلى الرغم من أنها قد تساعد على الشعور بالنعاس والدخول في حالة تخدير، إلا أنها لا توفر نومًا طبيعيًا ومجددًا بالكامل.
ويكشف الخبراء أن هذه الحبوب تغير دورة النوم الطبيعية للجسم، بل وقد تلغي مرحلة نوم حركة العين السريعة (REM). هذه المرحلة، تحديدًا، هامة وحيوية للتوازن النفسي، فهي التي تحدث فيها الأحلام وتتم خلالها معالجة المشاعر والخبرات اليومية. وبالتالي، بينما يظن اللاعبون أنهم يحصلون على الراحة، فإنهم في الواقع يحرمون أجسامهم وعقولهم من أهم مراحل التعافي الحقيقي، مما يفاقم من مشاكلهم الأساسية بدلاً من حلها.
تلك المفارقة هي من السبب الرئيسي وراء خطورة المشكلة: فاللاعب يسعى إلى تحسين أدائه والتعافي من الإرهاق البدني والنفسي، لكنه في الواقع يتناول مادة تمنعه من تحقيق ذلك، ببساطة لأن هذه الحبوب تقدم حلًا مؤقتًا لليلة واحدة فقط، لكنها لا تعالج الأسباب الجذرية للأرق مثل القلق والضغط والإجهاد.
“لا يوجد طريقة أفضل للتعافي من النوم”.
ليبرون جيمز.
ثمن الاعتماد
الاستخدام المطول لهذه للحبوب المنومة لا يقتصر تأثيره على تغيير نمط النوم فقط، بل له عواقب وخيمة على الصحة الجسدية والعقلية. تتضمن المخاطر قصيرة المدى الشعور بـ “صداع الكحول” (Hangover) في اليوم التالي، وهو ما يؤثر على التركيز، والوظائف المعرفية، والقدرة على اتخاذ القرارات على أرض الملعب. كما أن هناك مخاطر مقلقة جدًا تتمثل في السلوكيات المعقدة أثناء النوم، مثل المشي أو القيادة أثناء النوم دون وعي، والتي قد تؤدي إلى حوادث وإصابات خطيرة وصولًا إلى الموت.
أما المخاطر طويلة المدى فهي أكثر خطورة، فالاعتماد على هذه الحبوب قد يتطور إلى إدمان جسدي ونفسي، وعند محاولة التوقف عن تناولها، تظهر أعراض الانسحاب القاسية مثل الأرق الارتدادي (Rebound Insomnia)، والقلق، والتهيج، مما يدفع المستخدم للعودة إلى الحبوب مجددًا للبقاء في دائرة الأمان النفسي.
كما تشير الأبحاث إلى ارتباط الحبوب المنومة بمخاطر صحية خطيرة على المدى الطويل، بما في ذلك زيادة خطر الإصابة بالسرطان والخرف، والأكثر إثارة للقلق هو وجود دراسة تربط الاستخدام المنتظم لهذه الحبوب بزيادة في معدل الوفيات تصل إلى أربعة أضعاف لدى مستخدميها مقارنةً بالمجموعة التي لم تتناولها مطلقًا.
اللجوء إلى الحبوب المنومة في بيئة كرة القدم ليس مجرد خطأ علاجي، بل هو تعبير عن مفارقة وجودية: اللاعب الذي يُطلب منه أن يكون آلة أداء لا تعرف الكلل يجد نفسه عاجزًا أمام احتياجاته البيولوجية، والضغط النظامي لا يترك مساحة للضعف البشري، فيتحول النوم من عملية طبيعية إلى مهمة إجرائية يجب إنجازها بأي ثمن.
هنا يحدث الانزياح نحو المجهول، الوسيلة (الحبوب) تقدس على حساب الغاية (الصحة)، لأن اللاعب لا يسعى للنوم من أجل الاسترخاء فقط، بل يستخدمه كوقود للاستمرارية في ظل نظام يستنزفه، هذا يشبه من يقطع الشجرة ليحصل على ثمارها أسرع، بمعنى أصح تدمير المصدر من أجل الحصول على نتيجة سريعة، بالطبع هذا يحدث كنتيجة مباشرة للبيئة التنافسية في كرة القدم، التي تخلق تابوهات ضد الاعتراف بالضعف.
فاللاعب ليس فقط رياضيًا إنسان، بل هو أصل مالي ورمز مؤسسي، وهذا يفرض عليه أن يظل في تمثيلية القوة بشكل دائم ومستمر، حتى عندما يكون جسده وعقله يصرخان، الفلسفة هنا تكمن في تحويل الإنسان إلى “كائن ذو بعد واحد”، بحسب تعبير الفيلسوف هربرت ماركيز، الفارق فقط أن اللعبة تركز على بعده الإنتاجي فقط، وأي علامة على الإنسانية مثل القلق، أو الأرق، أو الخوف) تُعتبر عيبًا في خط التجميع.
وهذه المخاطر الجسيمة تؤكد أن مشكلة إدمان الحبوب المنومة ليست مجرد مشكلة سلوكية عابرة، بل هي أزمة صحية تهدد حياة اللاعبين المهنية والشخصية، وهنا نجد السؤال: كيف يخرج اللاعب من تلك الدائرة السامة؟
المستقبل
في مواجهة هذه الأزمة، بدأت الأندية الرياضية في التحول من نهج الحل السريع إلى استراتيجيات أكثر شمولاً وطويلة الأمد لضمان جودة نوم لاعبيها. هذه الاستراتيجيات تعتمد على العلم والتكنولوجيا بدلاً من الاعتماد على الأدوية.
أحد أبرز هذه الحلول هو التركيز على “نظافة النوم” (Sleep Hygiene)، وهو مصطلح يصف مجموعة من الممارسات التي تعزز جودة النوم، وتتضمن الحفاظ على جدول نوم ثابت، حتى في عطلات نهاية الأسبوع، مع تهيئة بيئة نوم مثالية مائلة للبرودة، ومظلمة، وهادئة، كما يشدد على ضرورة تجنب الأجهزة الإلكترونية والكافيين قبل النوم بساعة على الأقل، رونالدو مثلًا ينام خمس قيلولات كل قيلولة مدتها ساعة ونصف.
ولذلك فقد ظهر في الأندية دور جديد ومتخصص هو “مدرب النوم”، مدربًا يرفع شعار “يا لاعبي العالم.. اخلدوا إلى النوم”، على غرار الشعار الشيوعي الشهير: “يا عمال العالم.. اتحدوا”، إذ يعمل بشكل فردي مع اللاعبين لتعليمهم تلك الاستراتيجيات، ومثال على ذلك هو حالة لاعب برينتفورد كريستيان نورجارد، الذي نسب الفضل إلى مدرب النوم في ناديه لمنعه من الوقوع في فخ الإدمان على الحبوب المنومة
كما بدأت الأندية في استخدام التقنيات الحديثة لمساعدة اللاعبين على النوم، على سبيل المثال، تستخدم معظم الأندية في الدويات الكبرى غرفًا مظلمة مجهزة خصيصًا للقيلولة بعد وقبل المباريات أو بعد التمارين الشاقة، وذلك للحصول على أفضل وقت للتعافي، كما تم تزويد اللاعبين بأجهزة “Litebooks” التي تصدر ضوءًا أبيض لإعادة ضبط إيقاعهم اليومي، ونظارات خاصة تحجب الضوء الأزرق من الشاشات.
وإضافة إلى هذه الحلول السلوكية والتكنولوجية، يُعد العلاج السلوكي المعرفي للأرق (CBT-I) بديلًا مثبت الفعالية للحبوب المنومة، حيث تصل نسبة نجاحه إلى 70-80%. هذا العلاج يركز على معالجة الأسباب الذهنية الكامنة وراء الأرق دون الحاجة إلى أي دواء.
ولكن الضامن لكل ذلك هو كسر تلك الحلقة اللعينة التي تدخل اللاعبين في موجات القلق، فلو خف الضغط على اللاعب، لن يشعر بالقلق، وبالتالي لن يشعر بالأرق، ثم سينام نومًا هنيئًا. الأمر بسيط، إلا أن كيفية كسر دائرة الضغط والوصمات الاجتماعية، هو لب الأزمة، فمن من الإدارة أو الجمهور سيضحي بالانجازات والذهب والأموال مقابل أن يشعر لاعبيه بالراحة؟
في هذا السياق، بدأت الرياضة الاحترافية في إدراك أهمية الدعم النفسي، أصبح هناك اتجاه متزايد نحو الاستثمار في الصحة النفسية للاعبين. وقد أقر دوري NFL اتفاقية عمل جماعية تلزم كل نادٍ بتوفير أخصائي نفسي مرخص ومتكامل مع بيئة الفريق. كما تعمل منظمات مثل “تحالف الصحة النفسية في كرة القدم” (FMHA) على غرس مفهوم الصحة النفسية في نسيج كرة القدم من خلال توفير العديد من البرامج التدريبية.
وهو أمر ضروري للغاية حتى يشعر اللاعبون بالراحة عند التعبير عن مخاوفهم الصحية، وهذا يمثل مواجهة مباشرة للخوف من الوصمة الذي يمنع اللاعبين من طلب المساعدة، فالاستثمار في الصحة النفسية ليس مجرد لفتة إنسانية، بل هو قرار استراتيجي قائم على البيانات، حيث أظهرت الدراسات أن الفرق التي تستثمر في الدعم النفسي تحقق أداءً أفضل تحت الضغط وتقلل من فترات تعافي اللاعبين المصابين، ما يثبت أن صحة اللاعب النفسية والجسدية هي استثمار أساسي في نجاح الفريق على المدى الطويل.
وبما أننا وصلنا لتلك النقطة، لم يعد هناك حل إلا أن نخرج لك آخر ورقة، هل تتذكر نيك ليتلهيلز، حسنًا، لقد صار أخيرا من أصحاب الكتب، وأصدر مانيفستو لنوم هادئ وهانئ ومريح، في كتابه (Sleep)، مكون من 8 نقاط:
- النوم الجيد لا يقاس بالساعات، بل بالدورات (Cycles)، ومدة كل دورة هي 90 دقيقة، وبالتالي يجب على لاعب كرة القدم، أو الإنسان عامةً، ألا يستيقظ قبل نهاية الدورة أو مضاعفاتها.
- الإنسان البالغ العاقل يحتاج إلى 35 دورة نوم في الأسبوع.
- البشر قبل اختراع المصابيح الكهربية لم يخلدوا إلى النوم في الساعة 12 مساء حتى الساعة 7 صباحًا، بل كانوا ينامون في نوبات متقطعة (Polyphasically) كالأطفال بالضبط؛ أكثر من مرة، ولفترات أقصر.
- القيلولة في النهار هامة جدًا لعقل أصفى، خذ نصف ساعة فقط للراحة، لا تذهب في النوم إن لم ترغب في ذلك، فقط أغمض عينيك ودع عقلك يرتاح.
- الروتين مهم جدًا، في النوم والاستيقاظ، خاصة في الاستيقاظ، وتحديدًا في الـ 90 دقيقة الأولى بعد الاستيقاظ، يجب عليك ألا تلمس الانترنت طوال هذه الفترة، وإفراغ الأمعاء، وشرب الماء أو السوائل، والحصول على إفطار، وأخيرا، بعض التدريبات الخفيفة.
- يجب عليك ضبط وتينك على شروق الشمس وغروبها، لأن هذه العملية تضبط ساعتك البيولوجية وهرمونات جسمك، فضوء الشروق مثلا يحفز السيروتونين، هرمون السعادة والنشاط.
- استخدم أكبر فراش متاح، لا تسترخص، ولا تستصغر.
- نم في وضعية الجنين، ذراعان وركبتان مضمومتان إلى الصدر، وحاول التنفس من الأنف، قاتل الله مرض الجيوب الأنفية.
View this post on Instagram
كسر وصمة العار
تُظهر قصة ديلي آلي، والشهادات الأخرى من اللاعبين، أن إدمان الحبوب المنومة في كرة القدم ليس نتاج ضعف شخصي، بل هو عرض لأزمة منهجية أعمق، هذه الأزمة ناتجة عن تداخل الضغوط النفسية الهائلة، والجداول الزمنية المرهقة، والثقافة التي كانت تهمش الصحة النفسية وتضعها في مرتبة أدنى من الأداء.
لكن، كما تبين من الاستراتيجيات والتقنيات الحديثة التي بدأت الأندية مؤخرُا في تبنيها، فإن هناك طريقاً واضحًا للخروج من هذه الحلقة المفرغة، يكمن في التحول من نهج الحل السهل الذي تقدمه الحبوب المنومة إلى نهج شامل يرى في النوم الصحي والدعم النفسي ركيزتين أساسيتين للأداء، حيث إن المستقبل الناجح والمستدام لرياضة كرة القدم يتطلب ثورة ثقافية تضع صحة اللاعب ورفاهيته في صلب الأولويات.
وعندما يصبح النادي بيئة صحية من الداخل، تقدر النوم، وتكسر وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، فإنها لن تحمي لاعبيها من مخاطر الإدمان فحسب، بل ستطلق العنان لـ إمكاناتهم الكاملة، على أرض الملعب وخارجها.