365TOPدييجو أرماندو مارادوناأخبار365TOP

ميسي أفضل من مارادونا.. لماذا غيرت جماهير الأرجنتين رأيها؟

الأسطورة هي قصة تقليدية، غالبًا ما تكون مقدسة، تروي أحداثًا وقعت في زمن بعيد أو غير واقعي، وتهدف إلى تفسير أصل الأشياء، أو شرح ظواهر طبيعية، أو تقديم دروس أخلاقية أو قيم ثقافية، ولا تخلو في الغالب الأعم من المبالغة، المبالغة هي لُب الأسطورة، وديدنها الشرعي، مثل قصة امرئ القيس وصراعه على مُلك أبيه، أو بعض الملاحم التاريخية مثل حرب البسوس، ولا سيّما أن تلك الأحداث أُرّخت بشكل أساسي من قبل الشعراء والكتاب المنحازين والرومانسيين والمُبالغين في كثير من الأحيان.  

حسنًا، لقد بدأنا بذلك التعريف للوصول إلى نقطة معقدة في الحكاية، في مقطع صوتي انتشر كالنار في الهشيم بعد نهائي كأس العالم 2022 بأيام قليلة، قال المشجع الأرجنتيني الكتالوني، هرنان كاسياري، عبارة شديدة الرومانسية في وصف مشهد التتويج: “لم يسبق لنا أن رأينا رجلًا بسيطًا على قمة العالم”. 

(رجل بسيط)؛ ضع تلك الجملة أمامك، وقل لنا: هل تعلم شيئًا عن “الكنيسة المارادونية” بمدينة بوينس آيريس؟ 

لا داعي للبحث، فمن اسمها تظهر نواياها، إنها كنيسة تعبد دييجو أرماندو مارادونا بالمعنى الحرفي، تعبده، وتنحر الأضحيات على مذبحه المقدس، مرجعها الديني هو هدفه ضد المنتخب الإنجليزي، باعتباره نابع من سر روحاني خاص، وأعيادها توافق ذكرى ميلاد مارادونا.

هل تشعر بالارتياب من هذا الخبل والجنون؟ شعور طبيعي جدًا، ولكن فكر في تلك المفارقة جيدًا، لتجد أن فيها  تحديدًا يكمن الفارق الرئيسي بين ميسي ومارادونا، أحدهم رجل بسيط، وأحدهم ملك متوج، ولكن، كيف بنى كل منهم واجهته الدعائية؟ 

شكل الأسطورة 

عذرًا، لقد نسينا إخبارك أن ما دعانا لكتابة هذا المقال هو مقطع لمراسل 365scores في أميركا طلب فيه من بعض المشجعين الأرجنتينيين الإجابة عن تساؤل بسيط: ميسي أم مارادونا، وكانت الإجابة، للمفاجأة، في صف الرجل البسيط، وهو أمر لو تعلمون عظيم، أن يستطيع أحدهم التغلب على مارادونا في عقر داره، وبعد تلك السنوات التي أنفقها الرجل في بناء كاريزما، أو بيرسونا خرافية لا يشق لها غبار، كجاثوم، أو كشئ أسطوري مثل أبو رجل مسلوخة، فلا نستطيع الإمساك به ولا معرفة أوله من آخره.

بينما ميسي رجل بسيط فعلًا، وهذا ليس عيبًا لا سمح الله، بل المقصود هنا أننا رصدنا تجربته كاملةً، رأيناه مخذول وخاذل، ومهزوم ومنتصر، يبكي ويفرح، ويضيع ركلات جزاء في أوقات حرجة، رأيناه في جميع حالاته، وتعاملنا معه كرجل عادي.

أعظم لاعب في التاريخ؟ ربما من وجهة نظر البعض، ولكنه في النهاية رجل عادي، إنسان يعيش ويتعايش على حد تعبير الممثل الجميل محمد شرف، في الوقت الذي لم نرى فيه من مارادونا أي شئ مطلقًا، لا نحن، ولا حتى الأجيال السابقة، ولا حتى، وهنا مفاجأة أخرى، الأرجنتينيين أنفسهم. 

وذلك لأن الدوري الإيطالي لم يعرض خارج إيطاليا إلا سنة 1989، أي بعد سنتين من حصوله على الدوري مع نابولي، وبعد ثلاث سنوات كاملة من حصوله على كأس العالم مع الأرجنتين، وقبل سنة واحدة فقط من أسوأ مونديال لعبه في تاريخه، وذلك معناه أن الأرجنتينيين لم يشاهدوا له إلا 7 مباريات في كأس العالم، وهذا عدد مباريات قليل وهزيل جدًا، لا يمكن لأحد تقييم أي شئ أو أي مسيرة على أساسه. 

لم يره أحد مطلقًا، وهذا جعلنا نعتمد أكثر على المرويات والأحاديث الشفهية في فهم ومعالجة الأمر، اعتمدنا على الأسانيد وتمجيد الشعراء العرب مثل محمود درويش، والكتاب الأجانب مثل باولو كويلو، والشعراء والكتاب، كما تعلم، منحازين ورومانسيين ومُبالغين أكثر من اللازم، ومن المبالغة، تأتي الأسطورة كاستجابة لمتطلبات مجتمعية أكبر من قدرة الأفراد على التحمل. 

أي أن الأبطال في عين المجتمع أشبه بمرآة تعكس قيمه، فيجسدون المثل العليا، ويمنحون الناس حكمةً وأملاً، ولهذا السبب، عندما تَضطرب المجتمعات، تأتي قصصَ الأبطال والأساطير في حالة أشبه بالصمغ الجامع للشتات، والواقع المشترك الذي يتجاوز صعوبات الحياة اليومية، ويقدم عزاء لما يفتقرونَ إليه.

ولذلك لم يكن تقديسُ الأرجنتينيين لمارادونا احتفاءًا بمهاراته الكروية التي لم يشاهدها أحد، بل على العكس من ذلك، بل كان رد فعل جماعي على صدماتِ الأمة جمعاء، من حرب الفوكلاندِ إلى الدكتاتوريةِ ثم الانهيارِ الاقتصادي الكامل، حيث استثمر مارادونا في تلك الحالة ليتحول إلى “منقذٍ أسطوري” يحمل أحلام الأمة، ويُخفف من مخاوفها. 

ولذلك لم تكن تلك الرموز التي تجاوزتِ المنطق، كـيدِ الله مثلًا، سوى شرارة أشعلت حاجة المجتمع العاجز إلى “مُنقِذٍ” يسقط عليه أحلام الخلاص، فهذا الهدف، اعتبر “قدسية دينية” ثم تحول إلى رمزٍ عالميٍ للنضال ضد الاستعمار، البريطاني تحديدًا، وطبقًا لنظرية “عقدةِ المُنقذِ”، التي تفسر حاجة الفرد لإنقاذ الآخرين، تتحول تلك الحالة على المستوى الجماعي إلى آلية إسقاط مجتمعي، حيث تحمل الجماهير المنهكةُ أملها نحوَ شخصية كاريزمي. 

فالمجتمعات لا تنتظر الأساطير لتظهر؛ بل غالبًا ما تُسهم في صياغتها وبنائها، وعادةً ما تشمل العملية عدة أشياء مثل:

  • السرد المشترك (Shared Narrative): المجتمعات تبني قصصًا مشتركة حول الأحداث والشخصيات التي تعزز هويتها وقيمها. قصة مارادونا، من الفقر إلى المجد، تمثل هذا السرد بشكل مثالي.
  • التضخيم والتبجيل (Exaggeration and Veneration): مع مرور الوقت، يمكن أن تتضخم إنجازات البطل وتُضاف إليها هالة من القدسية. يُنسى الدور الجماعي للفريق ويُركز على البطل الأوحد.
  • الطقوس والرموز (Rituals and Symbols): “كنيسة مارادونا” ليست سوى مثال واحد على الطقوس والرموز التي تُبنى حول الأسطورة، مما يُضفي عليها طابعًا دينيًا تقريبًا.

وهنا تبرزُ الشخصيات التي يسميها علم النفس: “الشخصية المسيانية”، والاسم مُتخذ من عقيدة الفداء عند الأرثوذوكس، وهم أفراد ينظرُ إليهم كمخلِّصين، يمنحون رؤية لمستقبل أفضل، ولكن ليس عن طريق خطط واضحة، بل عبر كاريزما تَوحيدية ورموز ملهمة، وهذا يفسر لماذا احتضن الأرجنتينيون مارادونا رغم صراعاته مع الإدمان وإخفاقاته الإعلامية، وفشله الدائم كمدرب. 

اللافتُ هنا فعلاً أن تلك العيوب لم تقوض مكانته، بل زادت من قوة تأثيرهِ كرمز وطني، فالأرجنتينيون رأوا في صراعاته مرآةً لمعاناتِهم، مما جعله نموذجًا جيدًا لمفهوم المنفذ، وبينما بدا ميسي ككائن فضائي صامت ومتخاذل، حول مارادونا عيوبه إلى جسر عاطفي مع الجمهور، جسرٌ لم يتوفر لميسي المحاط دائمًا بهالةٍ من التشكيك. 

في التسجيلِ الصوتي السابق لكاساري، كشفَ عن أن ميسي كان مكروهًا في الأرجنتين للغاية، ابن ضال وعاق وغير مؤهل لحمل شعلة مارادونا، ثم وصف مشاعرِهِ المُتضاربةِ تجاهَ هذا العداء، ووصف لحظة اهتزازه الشديد عندما سمع ميسي يناقش سؤال ابنه المؤلم: “بابا، لماذا يقتلونك في الأرجنتين؟”، لماذا يحرقون قميصك؟ ويطالبون باسقاط الجنسية عنك؟ ولماذا يحبون مارادونا تحديدًا ويكرهونك لهذا الحد؟

هذه الكلمات وصلتْ إلى ميسي شخصيًا، وبعد أن شاهَدَ التسجيلَ مع زوجتِهِ، أرسلَ إلى كاسياري رسالةً صوتية يعترفُ فيها بأنَّ الاثنينِ بكيا معًا، لأن الرجل، وضع يده على الحقيقة، فميسي، حتى قبل الحصول على كأس العالم، حافظ على شكل الأرجنتيني، عاداته، طريقته في العيش والتعامل مع الآخر، والأهم، لم يغره كونه مهاجرًا للانسلاخ من بني جلدته. 

وتلك هي الفكرة كلها؛ دييجو كان أرجنتينيًا منذ البداية بشكل واضح، وبأشياء مادية ملموسة، أما ميسي، فقد عاش مهاجرًا، ولم يلعب في أندية أرجنتينية، ولم يطور ولاء جمهور أرجنتيني بعينه، لم يفصح بأرجنتينيته إلا عند الحصول على كأس العالم، ونقصد هنا (عند حصوله) وليس (بعد حصوله) لأن كأس العالم سبقه بعض الأشياء التي تجلت فيها روح ليونيل الجديدة، فلم يعد ذلك الكائن الفضائي الهادئ الوديع، بل أصبح أرجنتينيًا بشكل ما أو بآخر، أصبح أشبه بمارادونا في جسارته وعنفه وعنفوانه. 

كما انغمسَ تدريجياً في بوتقةِ الهوية الأرجنتينية الخام، صارَ أكثرَ عنفًا في المواجهات، وأجرأ في الدفاع عن زملائه، وأكثر شدة في وجه الخصوم والحكام دون تردد، ذروةُ هذا التحولِ تجلَّت في مشاجرته الشهيرة مع جاري ميديل خلال مباراة كوبا أميركا ضد تشيلي (2019)، حينَ اندفعَ كثور هائجٍ بعدَ تدخلٍ قاسٍ ومشادة كلامية ضد خصمه، مُحوِّلاً الملعبَ إلى ساحة قتال، طرد على إثرها وتم إيقافه لمدة مباراة واحدة.

 هذهِ “الخناقة” لم تكنْ لحظةَ غضبٍ عابرةً، بل كانت إعلاناً صارخاً عن ميلادِ قائدٍ جديد، قائد يرفضُ الإهانة، ويُعيدُ إنتاجَ روحِ مارادونا المتوثبة دون أن يُقلِّدَها، لقد صارَ ميسي، أخيرًا، ذلك الأرجنتينيَّ العاصفَ الذي يشتعلُ دفاعاً عن شرفِ فريقه، وهذا التحولُ النفسي صنعَ أسطورةً جماعيةً التحمَتْ حوله كالنحلِ حولَ الملكة، وباتَ زملائه في المنتخب الأرجنتيني ينظرون إليه كـ”قضيةٍ” يستحقون الموتَ لأجلها.

وهنا، عند تلك النقطة تحديدًا، قد نجد الإجابة عن سر التغير النبرة تجاه ميسي في الفيديو الذي كتبنا هذا المقال من أجله.

فلاش باك

على الرغم من ولادة ميسي في روزاريو بالأرجنتين، فإن انتقاله المبكر إلى برشلونة في عمر 13 عامًا (بسبب نقص هرمون النمو) جعل بعض الأرجنتينيين يرونه “ابنًا ضالًا” ابتعدَ عن وطنه بفعل الأزمات الاقتصادية، أسلوب لعبه الجماعي والمنظم وعقليته المحترفة، قوبل أيضًا بانتقاداتٍ حادة على مستوى الداخل الأرجنتيني، باعتباره “أوروبيًا” يختلف عن النمط الأرجنتيني التقليدي القائم على الارتجال والمغامرة الفردية. هذه الفجوة غذت بعض الاتهامات بأنه مبهر لبرشلونة فقط، بينما يقصرُ مع منتخب بلاده.

كما أن الاختلافَ لم يقتصرْ على الملعب فقط، فشخصية ميسي الهادئة وحياتُه الخاصة البعيدة عن الأضواء اصطدمتْ مع صورة مارادونا الصاخبة والعصبية، هذا التناقض جعل الجمهور الأرجنتيني يصنّف مارادونا كـ”إلهٍ” قريبٍ من هموم الناس، بينما بدا ميسي “كائنًا فضائيًا” صامتًا يصعبُ فهمه والتعامل معه. 

هذه الانتقاداتُ وصلتْ ذروتها بعدَ خسارته ثلاث نهائيات متتالية (كأس العالم 2014، كوبا أمريكا 2015 و2016)، وحين أعلن اعتزالَه المؤقت عام 2016، أشعل قراره صدمة وطنية، كان الكل ينعته بالمتخاذل، والخشبة، والجبان، مارادونا نفسه قال نصًا بعد كأس العالم 2018: “لم يعد علينا تأليه ميسي، فمن الصعب أن تصنع قائداً من رجل يذهب إلى دورة المياه عشرين مرة قبل المباراة”، في إهانة صريحة وواضحة.

أما مارادونا فمغامر، قوي، صلب، لا يذهب لدورة المياه أصلًا، ابن الأرجنتين البار، الذي ولد ونشأ في فيلا فيوريتو، أفقر أحياء بوينس آيرس، حيث عاش طفولةً قاسيةً بلا كهرباء أو مياه نظيفة. هذه الخلفية لم تكن مجرد تفصيل، بل كانت الأساس الذي بنى عليه ارتباطه بالطبقة العاملة، فصعوده من القاع إلى العالمية بأذرع فتية، وصورة نمطية خارقة، جسّد أحلام ملايين الشباب ممن رأوا فيه مرآةً لمعاناتهم، كما أن شخصيته الجريئة وأخطاؤه العلنية جعلته يبدو كـ”قوة طبيعية” تعبّر عن الهوية الأرجنتينية الخام.

هذا الارتباطُ العميقُ تجلّى بوضوحٍ في كأس العالم 1986، الذي جاء بعد أربع سنوات فقط من هزيمة الأرجنتين المهينة أمام بريطانيا في حرب الفوكلاند، وفي ذروة الأزمة الاقتصادية بعد الديكتاتورية العسكرية، صنع مارادونا أسطورته في مباراة ربع النهائي ضد إنجلترا، العدوّ التاريخي، وكانت “يد الله”: هدفٌ مثيرٌ للجدل أدخله بيده، واصفاً إياه بـ”هبة من الله”، ثم “هدف القرن”: مراوغةٌ خرافيةٌ تجاوز بها 5 لاعبين في 10 ثوانٍ. 

هذان الهدفان المتتاليان، خاصةً ضد ممثل الجرح الوطني، حوّلاه إلى “منقذٍ” رمزيٍّ جسّد انتقاماً للأمة وزرع الأمل في ظلّ الأزمات، ولم يتوقفِ التأثيرُ عند هذا الحد: ففي 1998، تأسست “كنيسة مارادونا” في روساريو، كظاهرةٍ ثقافيةٍ فريدةٍ تجسّد تقديسَ الأرجنتينيين له، حيث استخدموا مصطلح “D10S”، ووضعوا بعض الوصايا مثل: “أحبّ كرة القدم فوق كل شيء”، و”بوركت يد مارادونا الذهبية”. 

هذه الكنيسة، بين الجدّ والسخرية، كشفتْ كيف تجاوز مارادونا كونه مجردَ لاعبٍ ليصبحَ ظاهرةً شبهَ دينيةٍ، تعكس حاجةَ المجتمعِ لتحويل أبطالِه إلى رموزٍ مقدسةٍ بعد انتصاراته التاريخية، خاصة بعدما لبى بعض التطلعات العاطفية والقومية، دور مارادونا كـ”منقذ” بعد حرب الفوكلاند  سمح له بالاستفادة من هذا الشوق المجتمعي العميق للخلاص، مما طمس الخطوط الفاصلة بين البطل الرياضي والشخصية المسيانية. 

هذا الشعور أجج ما وصفه عالم الاجتماع إميل دوركهايم بـ “الفيضان الجماعي”، وهي لحظاتٌ يشعرُ فيها الناس باتحادٍ قويٍ مع الآخرين، وارتباط بشيءٍ أعظمَ من ذواتهم، قد يصلُ إلى حدِّ الشعورِ بالمقدس، في هذه اللحظات، تذوبُ الفواصلُ الفرديةُ وينصهرُ الجميعُ في بوتقةِ المجتمع، أو الفردانية، وكرة القدم، كما تعلم، من أقوى محفزاتِ هذا الفيضان، فطقوسُ ما قبلَ المبارياتِ، وهتافاتُ الجماهيرِ، ولحظاتُ تسجيلِ الأهدافِ تُشعلُ مشاعرَ جماعية تُذيبُ فيها الفروقَ بين الأفراد، وينسجم الكل مع نغمة واحدة، كانت هنا اسمها: “مارادونا”. 

عودة الابن الضال

إذن ذلك هو السياق التاريخي الذي ولد به مارادونا، ونشأ فيه ميسي، ولكن، ما الذي غير النظرة المجتمعية لميسي تحديدًا؟ للمفاجأة، لا شئ، إلا حصوله على كأس العالم فقط، خاصة وأن ما فعله ميسي في تلك البطولة، قد فعل مثله وأكثر في كل البطولات السابقة، ليس هناك أي جديد، لكن تجاوز الحد الفاصل بين الاجتهاد والتتويج، أو ما تسمى اعتباطًا “لحظة التنوير”، أشعرت الجميع بعودة الابن الضال، رغم أنه، لم يغب عنهم قبل ذلك، بل والأدهى أن مارادونا نفسه كان أحد أسباب تلك المهزلة التي عاشتها الأرجنتين لسنوات طويلة بعد اعتزاله، ولكن هيهات، فالبشر يحبون اللقطة الأخيرة. فقط.

الجنس البشري مجبول على ذلك، على إعادة التاريخ بشكل ما أو بآخر، ولا يقرأ التاريخَ كسلسلةٍ أحداثٍ، بل كروايةٍ تَختزلُ مسيرةَ البطلِ في “المشهد الختامي”، فيما يعرف بتأثير “الذاكرة القصيرة” والتحيز الأخير (Recency Bias and Short-term Memory)، حيث تتأثر الذاكرة البشرية بشدة بالأحداث الأخيرة فقط، هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس المعرفي أيضًا بـ “تحيز الحداثة” (Recency Bias)، حيث يميل الناس إلى تذكر المعلومات والأحداث الأحدث بشكل أفضل وأكثر تأثيرًا من المعلومات القديمة

ولذلك فانتصارُ ميسي الأخير لم يُضفِ إنجازًا جديدًا لمهارتِه نهائيًا، لكنَّه، بدلًا من ذلك، أعادَ ترتيبَ ذاكرةِ الأمةِ بأكملِها، سنواتُ الجدلِ والاتهاماتِ تبخَّرت، والهزائمُ المتتالية صارتْ مجردَ مقدمات درامية للخلاصِ والمجد المكتوب في اللقطة النهائية، الفشل السابق صار “تدريبًا” للانتصارِ، والبرود الشخصي صار حكمةً خفية، والجماهيرُ التي أحرقتْ قميصَهُ بالأمسِ تذكرُ اليومَ فقط لحظةَ رفعِهِ الكأس.

حتى مارادونا، الذي أشعلَ بانحرافاتِه فتنةَ المقارناتِ، تحوَّل بقدرة قادر إلى مجرد “فصلٍ” في كتابٍ أكمَلهُ ميسي، المفارقةُ أنَّ “عودةَ الابنِ الضالِ” المزعومة تلك، لم تكنْ عودةً حقيقية اطلاقًا،  فميسي لم يَغِبْ عن الأرجنتينِ يومًا، بل على العكس، ظلَّ يخوض معاركها بدمه وقميصه وكل مجهوده منذُ 2005 وحتى النهاية، لكنَّ البشر، كعادتهم، يحتاجون خاتمة مقدسة ليعيدوا تفسير كل الأحداث والأفكار والأوهام. 

مارادونا نابولي

الغريب أن تلك الآلية التي تختزل التاريخ في ليست حكرًا على كرة القدم وحدها، بل هي قانون إنساني يهذب فوضى الذاكرة، ففي السياسة، تُنسى إنجازات الزعيم كلها إذا انتهى عهده بسقوطٍ مأساوي،  وفي الفن، تختزل مسيرة الفنان العظيمة في لوحتِهِ الأخيرة، فتُصبح مقياسًا وحيدًا لعظمته، أما في حياتنا الشخصية، علاقة حب دامتْ سنوات قد يحكَمُ عليها كلِّها من مشهدِ الفراق الأخير.

هكذا تصنعُ الجماهيرُ تاريخَها، تختار الإطار الذهبي الذي يغلّف اللقطة الأخيرة فقط، بينما يتحوّلُ ضجيجُ الماضي إلى همسٍ بالكادِ يُسمعُ، كأس العالم لم يضف لميسي عظمةً جديدةً، لكنه قدّم للجماهيرِ “نهايةً سعيدة” دفنت تحت أضوائها هموم السنوات، وأسكتت إلى الأبد أصوات الشكِّ التي لاحقته.

مقارنات ليس لها معنى

هل تعلم ما هي الحقيقة الوحيد في تلك ذلك؟ أن تلك المقارنات، للمفاجأة، هي مجرد مقارنات بلهاء ليس لها داعٍ، وليس لها أي أساس منطقي من أي نوع، مبدأيًا لأننا لم نشاهد مارادونا أصلًا كما أسلفنا، وثانيًا لأننا حرفيًا نتحدث عن لعبتين مختلفتين كليًا، ميسي لا يلعب نفس كرة القدم التي لعبها مارادونا.

حيث اعتمدت كرة القدم فترة مارادونا على تشكيلات ثابتة كـ 4-4-2، مع هجمات مباشرة تعتمد على القوة البدنية كما كانت الرقابة الفردية هي السلاح الدفاعي الرئيسي، حيث يلتصق المدافع بالخصم كظله، ولكن دون أن يضغط معه شخص آخر، أي أن مارادونا ظل طوال حياته يستلم الكرة على الخط، يضغط عليه شخص واحد فقط، فيرقصه ويمر منه دون أن يعترضه أي شخص آخر.

 أما ميسي، فقد ولد في عصر به شكل مختلف تمامًا في أسلوب الضغط والضغط الوقائي والضغط العالي والعكسي Gegenpressing، والتمريرات القصيرة والسيطرة المُحكمة على الكرة، كل شئ تغير، حتى الكرة نفسها أصبح لها طابع وشكل مختلف، أكثر خفة من ذي قبل، والعشب أصبح أكثر مرونة وتغيرًا.

ولذلك فكل تلك المقارنات بلهاء من أولها لآخرها، فـ”يد الله” لم تُسجَّل ضد ضغطٍ عكسيٍّ حاد، وبناء عليه يكون السؤال الحقيقي ليس “من الأعظم؟”، بل “كيفَ استطاعَ كلٌّ منهما أن يجيد في عالمه المختلف؟ عندها فقط قد ندركُ أنَّ مقارنَة بعضهما البعض تشبه سؤال: هل القمرُ أجمَل أم الشمس؟ حسنًا، كلاهما يضيئان، لكن في سماء مختلفة.

محمود ليالي

كاتب وصحفي رياضي مصري من مواليد 1999، مهتم بالتحليل الرياضي خاصة الكروي، والجوانب الاحصائية والتكتيكية والخططية المتعلقة به، بالإضافة لمساحات الالتماس مع الاجتماع والسياسة والحياة، كتب لعدة مواقع مصرية وعربية مثل الجزيرة نت وميدان ورصيف22 ومواطن وألترا صوت، وشاعر صدر له ديوان "البقايا" عام ٢٠٢٣.